أَعوذُ باللهِ مِنَ الشّيطانِ الرّجيمِ
بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
والصّلاةُ والسّلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمُرسَلِينَ أبِي الزّهراءِ مُحمّدٍ وآلِه الطّيبينَ الطّاهرينَ، واللّعنُ الدائمُ على أعدائِهِم أجمعينَ إلى قيامِ يومِ الدّينِ.
أَسعدَ اللهُ أيّامَكُم بِذكرى مِيلادِ مَولىٰ الموحّدِين ويَعسوبِ الدّينِ والصِّراطِ المُستَقِيمِ وَقائدِ الغُرِّ المُحجَّلِين إلى جَنّاتِ النَّعِيمِ الإمامِ أميرِ المؤمنينَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ عليه صلاةُ المُصَلِّينَ، وَحفيدِه بابِ المُرادِ الهادي إلى الرَّشادِ والمُوفَّقِ بالتأييدِ والسّدادِ المُنتجَبِ التقيِّ والمُهذَّبِ النّقيِّ الإمامِ مُحمّدِ بنِ عليٍّ الجَوادِ صَلواتُ اللهِ عليه.
نُشيرُ في هذهِ اللّيلةِ بشكلٍ مُختصرٍ ومُفيدٍ إن شاءَ اللهُ حولَ فضلِ المولَى أميرِ المؤمنينَ في القُرآنِ الكَريمِ، والرُّواياتِ الواردةِ بِطُرُقِ العامّةِ والخاصّةِ.
رَوَى الحافِظُ القندوزِيُّ الحَنفِيُّ في يَنابيعِ المودّةِ وفِي الدُّرِّ المُنظمِ للحَلبِيِّ الشّافعيِّ: "اِعلَم أنّ جميعَ أسرارِ الكُتُبِ السّماويّةِ في القُرآنِ، وَجميعَ ما في القُرآنِ في الفَاتحةِ، وجَميعَ ما فِي الفَاتحةِ في البَسمَلةِ، وجميعَ ما في البَسمَلةِ في باءِ البَسملةِ، وجميعَ ما فِي باءِ البَسملةِ في النُّقطةِ الّتي هي تحت الباءِ"، ثُمَّ قال: قالَ الإمامُ عليّ عليه السَّلامُ: "أنَا النّقطةُ الّتي تحت الباءِ"(1).
وقد رأيتُ تعليقًا لسماحةِ المَرجِعِ السيِّدِ صادقِ الشّيرازِيِّ دامَ ظِلُّهُ في كتابِه عليٌّ في القُرآن، وأنصحُ الجميعَ بالاطّلاعِ على هذا الكتابِ القَيِّمِ.
فَعلَّقَ سماحةُ السَّيِّدِ: لعلَّ المقصودَ بذلكَ هُوَ أنّ الباءَ بلا نُقطةٍ يَكونُ حَرفًا مُهمَلًا لا دِلالةَ له على شيءٍ، فبسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ بِلَا نُقطةَ البَاءِ لا تَعنِي شيئًا ولا تَدلُّ على شيءٍ، وهكذَا مَنزِلَةُ عليِّ بنِ أبي طالبٍ عليه السّلامُ بالنِّسبةِ للقُرآنِ، فَعليٌّ هُوَ القُرآنُ النّاطقُ الّذي بدونِه لا يَتِمُّ الإيمانُ بالقرآنِ وبِجهادِهِ استقامَ الإسلامُ وبولايتِهِ أكمَلَ اللهُ الدّينَ وأتمَّ اللهُ على عِبادِهِ النِّعمةَ ورَضِيَ لهُم الإسلامَ دينًا.
فالدِّينُ من دونِ وِلايتِهِ ناقصٌ، والنِّعمةُ مِن دونِ الولايةِ نِعمةٌ ناقصةٌ، والإسلامُ من دونِ الولايةِ ليسَ إسلامًا.
فعليٌّ هُوَ الصِّراطُ المُستقيمُ الّذي أنعمَ اللهُ بِهِ على المؤمنينَ، فليَتأمَّلِ المؤمنُ حينما يَقرأُ "اِهدِنا الصِّراطَ المُستقِيمَ" أنّه يدعو اللهَ في كلِّ صلاةٍ يُصلِّيها أن يُرشِدَه إلى حُبِّ مُحمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ.
وروي في شَواهدَ التَّنزيلِ عن ابنِ عَبَّاس قالَ: "ممّا نزلَ من القُرآنِ خَاصَّة في رَسولِ اللهِ وعليٍّ وأهلِ بيتِه مِن سُورةِ البَقرةِ "وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ"، نَزَلت في عليٍّ خاصّة، وهُوَ أوّلُ مؤمنٍ وأوّلُ مُصلٍّ بعدَ رسولِ الله صلّى اللهُ عليه وآلِه"(2).
فَهُنَا يَقعُ التّساؤلُ لما نَزَلَت في عليٍّ خاصّة؟ لأنّهُ المِصداقُ الأكملُ والفَردُ الأوّلُ حيثُ لَم يكن فردٌ آخرَ غيرهُ مِصداقًا لها وهُوَ مع ذلكَ أكمَلُ المؤمنينَ إيمانًا.
وقَد عَمَّ فَضلُهُ الوَرى وكانَ السّببَ لقبُولِ تَوبةِ آدمَ وغيرِه من الأنبياءِ العِظامِ والرُّسُلِ الكِرامِ.
رَوىٰ العَلّامةُ الحافِظُ ابنُ المغازليِّ في مَناقِبِه بإسنادِه عن عَبدِ اللهِ بنِ عَبّاس: سُئلَ النبيُّ صلّى اللهُ عليه وآلهِ، عن الكَلماتِ الّتي تَلقّاهَا آدمُ مِن ربِّه فتابَ عليه، قالَ صلّى اللهُ عليهِ وآله: سألَهُ بحقِّ مُحمّدٍ عليٍّ وفاطمةَ والحسنِ والحُسَينِ إلّا ما تبتَ عليَّ فتابَ عليهِ.(3)
ومَا مِن آيةٍ فيها مَدحٌ تبدأُ بِـ يا أيُّها الّذينَ آمنُوا إلّا وعليٌّ أوّلُها وأفضلُها وأميرُها وخيرُها بعدَ النبيِّ مُحمّدٍ صلّى اللهُ عليهِ وآلِه.
وأمّا الآنَ فنتوجَّهُ إلى فَضلِ أهلِ البَيتِ صلواتُ اللهِ عليهم في رُواياتِنا في كتابَي الفَقيهِ وعُيونِ أخبارِ الرِّضَا للشّيخِ الصّدوقِ بإسنادِه عن النَّخَعِيِّ أنّه قالَ للإمامِ عليِّ الهادي صلواتُ الله عليهِ: عَلِّمنِي يا بنَ رسولِ الله قولًا أقولُه بليغًا كامِلًا إذا زرتُ واحِدًا منكم، فذَكرَ له الإمامُ صلواتُ اللهِ عليهِ الزّيارةَ الجامعةَ الكبيرةَ.
وقَد علّقَ صاحبُ بحارِ الأنوارِ العلامةُ المجلسيّ رَحمَهُ الله قائلًا: " لأنّها أصَحُّ الزّيارَاتِ سَنَدًا، وأعَمُّها مَورِدًا، وأفصَحُهَا لَفظًا، وأَبلَغُها مَعنًى، وأعلَاهَا شأنًا ".(4)
وذكرَ والدُه رَحِمَه اللهُ في ذَيلِ الزّيارةِ إنّ هذه الزّيارةَ أحسنُ الزّياراتِ وأكملُها وإنّي لم أزُر الأئمةَ ما دمتُ في العَتَباتِ المُقدّسةِ إلّا بها.(5)
ومِمّا يَدلُّ كذلكَ على جَلالةِ الزّيارةِ الجامعةِ ومكانتِها الكبيرةِ لدى كِبَارِ علماءِ الطائفةِ استشهادُهم بها في تَفسيرِ الآياتِ القُرآنيّةِ وبيانِ الأحكامِ الشّرعيةِ وشرحِ الأخبارِ.
وقد اشتملت على الإشارةِ إلى جُملةٍ من الأدلّةِ والبراهينِ المُتعلِّقةِ بمعارفَ أصولِ الدّينِ وأسرار الأئمةِ الطّاهرينَ ومظاهرَ صفاتِ ربّ العالمين، وقد تضمّنت من حُقوقِ أولي الأمرِ الّذين أمرَ اللهُ بطاعتِهم وأهلِ البيتِ الّذين حَثَّ اللهُ على متابعتِهم وذوي القُربى الّذين أمرَ الله بمودَّتهم وأهلِ الذِّكرِ الّذين أمرَ اللهُ بمسألتهم.
ومِن كُنوزِ هذه الزّيارةِ قولُه صلواتُ اللهِ عليه: "وفِعلُكُمُ الخَير وعَادَتُكُمُ الإِحسَان وسَجِيَّتُكُمُ الكَرَم... إِن ذُكِرَ الخَيرُ كُنتُم أَوَّلَهُ وأَصلَهُ وفَرعَهُ ومَعدِنَهُ ومَأواه ومنتهاه".
1 - وفِعلُكُمُ الخَير: إنّ فعلَ الأئمةِ صواتُ اللهِ عليهم هو الخَيرُ لا بِمعنَى أنّهم يفعلونَ الخَيرَ، وإنّما بمعنى أنّ الخيرَ ما فَعلُوه، وفي هذه الجُملةِ عمومٌ وإطلاقٌ ولعلّها إشارةٌ إلى قولِه تعالى: "وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ".(6)
وقَد اعتَرفَ كلُّ مُحبِّيهم وأعدائهم في ضِمنِ نَقلِ أحوالِهم وسِيرتِهم صلواتُ الله عليهم بأنّهم ما فَعلُوا إلّا الخيرَ، وما ذلك إلّا لأنّ أفعالَ الأئمةِ صلواتُ اللهِ عليهم هِيَ ترجُمانٌ لِفعلِ الله عزَّ وجلَّ وأنَّ كلَّ الخَيرِ عندَ الله تعالى، فعلينَا أن نفهمَ عظمةَ مِثلَ هذا المَقامِ والمَنزلةِ الّتي كانت لهم.
2 - وعَادَتُكُمُ الإِحسَان:
وهذه الجُملةُ إشارةٌ إلى صفةٍ أُخرى من الصِّفاتِ الإلهيّةِ فأهلُ البيتِ صلواتُ اللهِ عليهم لهُم مثلُ هذه الصِّفةِ وفي سيرتِهم تتجلّى كما يَشهدُ بذلكَ المُخالفُ قبلَ المآلفِ.
وإذا تأمَّلنا هذه العبارةَ نجد أنّ الإحسانَ عادةٌ لأهلِ البيتِ صلواتُ اللهِ عليهم لا أنّهُم يَفعلونَهُ أحيانًا؛ ولفظةُ الإحسانِ عامّةٌ لم تُلحَق بمُخصِّصٍ فهُم مُحسِنونَ بكلِّ أنواعِ الإحسانِ مُعتادُونَ عليه فلا يَقتصِرُ إحسانُهم على طائفةٍ دونَ أخرَى حتّى إلى المُسيئينَ إليهم.
3 - وسَجِيَّتُكُمُ الكَرَم:
قالَ الراغبُ: الكَرمُ إذا وُصِفَ به الإنسانُ فَهوَ اِسمٌ للأخلاقِ والأفعالِ المحمودةِ الّتي تَظهرُ منه، ولا يُقالُ هُوَ كريمٌ حتّى يَظهَرَ ذلكَ منه.(7)
فعِندما يَطَّلعُ الإنسانُ على سِيرةِ أهلِ البيتِ صلواتُ اللهِ عليهم تدلُّه على مَدّى ما قَدَّمَه الأئمةُ الأطهارُ للآخرِين من أفضال وإحسان، ولكنَّ الآخرينَ كفروا بهذه النّعمِ ومع ذلك بَقِيَ إحسانُهم مستمرًّا متواصِلًا، لأنّهم كانُوا مظاهرَ الصِّفاتِ الإلهيَّةِ ومنها الكَرم والجُود.
وقَد تجلّى الكَرمُ بل الجودُ في أعلى دَرجاتِه في الإمامِ مُحمّدِ بنِ عليٍّ التقيِّ الجوادِ صلواتُ اللهِ عليهم، فكانَت سجاياهُ دالّةً على تِلكم المَكرُمَات.
ثُمَّ إنّ مصاديقَ الخَيرِ كلَّها من أهلِ البَيتِ صلواتُ اللهِ عليهم وعلَى رأسِها المعرفةُ والإيمانُ والعلمُ وهُم الأصلُ لكلِّ ذلك أينمَا كانُوا وهُم المعدِنُ له. لذا أشارَ صلواتُ اللهِ عليه بقولِه: "إِن ذُكِرَ الخَيرُ كُنتُم أَوَّلَهُ وأَصلَهُ وفَرعَهُ ومَعدِنَهُ ومَأواه ومنتهاه".
وهَل في ذلك شكٌّ لأيِّ عاقلٍ؟! وهل يَجوزُ أن يُقاسَ بهم غيرُهم فضلًا على أن يُقدَّمَ عليهم؟!
بل الّذي تحقّقَ من أعدائهم وصدَرَ هُوَ الشّرُّ، وهُم الأصلُ له إلى يومِ القيامةِ.
إنّ مَن يُطالعُ حالاتِ الأئمةِ الأطهار صلواتُ اللهِ عليهم يترقّى بفكرِه ومعرفتِه، وتزدادُ ولايتُه وطاعتُه ومحبتُه لهم صلواتُ اللهِ عليهم، لأنّ حياةَ محمّدٍ وآلِ محمّدٍ كُلَّها نورٌ وخيرٌ وهدايةٌ، فهُم أصلُ كلِّ خيرٍ وأعداؤهم أصلُ كلِّ شرٍّ.
فعلينا أن نَحمدَ اللهَ عز وجل على عظيمِ نِعمهِ وفضلِه بأن جعلَ قلوبَنا معقودةً على محبتِهم ورزقَنا ولايتَهم وجعلَ لسانَنا بذكرِهم لَهِجًا، فعلينَا أن نمتثلَ لأوامِرِهم، وننهجَ نهجَهم ونسيرَ بسيرتِهم ونتخلَّقَ بأخلاقِهم وآدابِهم لِننالَ سعادةَ الدُّنيا والآخرة.
- خلاصة كلمة مولد أمير المؤمنين والإمام الجواد (صلوات الله عليهما) ألقيت في هيئة الإمام الجواد(صلوات الله عليه) في منطقة الجابرية ليلة العاشر من شهر رجب 1446 للهجرة.
- الكلمة مقتبسة من كتاب علي في القرآن لسماحة المرجع السيد صادق الشيرازي (دام ظله) وكتاب مع الأئمة الهداة في شرح الزيارة الجامعة الكبيرة للسيد علي الميلاني (دام ظله).
1- علي في القرآن – ج1 – ص10.
2- علي في القرآن – ج1 – ص32.
3- علي في القرآن – ج 1 – ص24.
4- بحار الأنوار – ج 99 – ص144.
5- نقلًا عن مفاتيح الجنان.
6- سورة الأنبياء – آية 73.
7- مفردات الراغب الأصفهاني – ص625.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق